على حامد يكتب … فتاة البرتقال
- مقالات
- 28 نوفمبر 2018
- d M Y
- 2038 مشاهدة
فناة البرتقال سطر في القصة التي لا تنتهي، والتي سيحكي لكم الفنان بدايتها، وهي عنوان لمضمون وتشكيل فني وجمالي مختلف، ورسالة هي جوهر الفن الذي يُقدّمه للناس.
حكايات ومواقف وأحداث مَرَّتْ، ولا تزال تحدث حتى الآن
فتاة البرتقال مُلْهِمَة. مُثير ومُحَفّز. منبع لقصص يعيشها الإنسان ويتفاعل معها وتُؤَثِّر فيه بتفاصيلها الدقيقة.
فتاة البرتقال امتزجت بمواقف وتجارب مَرَّ بها الرسام، وأراد التعبير عنها بأدواته وخاماته وتصوراته وميوله
فتاة البرتقال حقيقة وحدث وصورة ورؤية.
شكل ومضمون وموضوع ورمز.
هي نتاج حالة شعورية وعاطفية، وتعليق على واقع نعيشه.
هي واحدة وكُل. وجود ومعنى.. فكرة ودلالة.
في الزمان والمكان.
في المجتمع بأكمله؛ في الريف والمدينة.. في الدروب والحقول والأزقة والحواري.
فهل ما يُقَدّمه الفنان “عماد إبراهيم” الآن، في لوحاته الجديدة هو رؤية مختلفة للعالم من وجهة نظره، يُصَوّرها بألوانه الأكريليك وأقلام الفحم ولمسات الفرشاة وضرباتها المدروسة بمهارة وعناية تامة، أم هي قصص أدخلته في دواماتها ظروف حياة وطبيعة ممارسته الدائمة والدؤوبة للرسم والتصوير الفني على مدار سنوات طويلة، أو أنه قد يكون شاهد أحداثها وشخصياتها، و ربما رُويت له واستمع إليها باهتمام وشغف.. وقد تكون كل هذا وغيره من العناصر التي تُشَكّل عمر الإنسان على الأرض.
المضمون في تلك الصور فيه تنوع، والشكل كذلك. وقد يدهشنا عمل العقل الباطن، ومشاغل اللاشعور لدى الفنان
من الداخل شيء ما يدفعه دائماً في اتجاه المسطح الخالي، والاندفاع إلى التوال، والاشتباك معه.
كل فنان يُدرك أنه يعيش تجربةً، مغامرةً. وسوف تتكون في أعماقه فكرة، ويتولد عنده تصور ما للحياة.
وفي أعماقنا أشياء مُرَكَّبة، مُعَقَّدة وفي حالةِ فوران؛ لذلك فالموضوع؛ أي موضوع يكون مُعَقَّداً ومُتشعباً. والفكرة الأساسية هي تلك الفتاة التي خرجت من أرض السوق الذي يصخب بالبشر والأشياء وحركة البيع والشراء والمساومة والربح والخسارة.
كان الفنان قد فَرّ ــ ذات شروق يوم غائم ــ من مطاردة عمال وموظفي محطة مصر ــ باب الحديد، لاعتقادهم أنَّه بالرسوم التخطيطية السريعة لما يوجد على أرصفة المحطة الرئيسية للقطارات وما يدور فيها من أحداث وعناء، يُصَوّر مشاهد مُسيئة وغير مرغوب في كشفها؛ لأنها تتعرض لأوضاع وظروف بسطاء الناس والمهمشين وما يلاقونه من المتاعب والشقاء في رحلاتهم على خطوط السكة الحديد، سواء اتجهوا شمالاً أم جنوباً.
وتخفى الفنان ــ بعد عدة مطارادات ــ داخل عربة مُعتمة بقطار؛ ليُكمل رسوماته التي تُصَوّر زحمة البشر وصخبهم وسط تكدس البضائع والأشياء على الرصيف، وبعيداً عن إزعاج الفضوليين والحُرَّاس.
لكن القطار الساكن تَحَرَّك فجأةً. هَدَرَ وجَلجَل. قال الفنان في سِره: “دعه يتحرك.. ليأخذني إلى آفاقٍ جديدةٍ.. عالم مختلف أستمتع بالفرجة عليه، وأرسمه”.
واندفع القطار إلى قلب الريف. إلى الحياة البسيطة للمزارعين المصريين في الجنوب.
احتضنته المناظر الجميلة: غابات النخيل، أشجار الفاكهة، الأحراش، القنوات والمصارف، نشاط الفلاحين الصباحي المبكر، والماشية التي ترعى أو تتجول وسط الحقول. إنه عالم آخر غير جو الأحياء الشعبية التي نعيش في زحام حواريها، وتكدس أزقتها، ولهاث قاطنيها وصخبهم العنيف.
وقال الفنان لنفسِه مرةً أخرى: “لأرسم مناظر ريفية.. لأصوّر شكل ومظاهر المعيشة اليومية للقرويين وطقوس معتقداتهم وثقافتهم التقليدية؛ حركة البشر والحيوانات والطيور وجميع عناصر هذا التكوين الغريب على بصري”.
وعندما أبطأ القطار في مدخل قرية “مزغونة” بإحدى ضواحي مدينة الجيزة قريباً من دهشور، قفز منه الفنان، ومشى في ممر ترابي تحوطه نباتات الحلفاء والبوص الغاب، وأكوام القش الهائش، وأعواد النباتات الجافة. وبعد دقائق لمحت عيناه سوق الاثنين.
في عموم الريف، لكل قريةٍ أو بلدةٍ صغيرةٍ يومٌ للسوق. يتجمعُ فيه الناسُ بمنتجاتهم الزراعية ومحاصيلهم ومواشيهم، ويتجولون بحيويةٍ وهمةٍ وسط متاعهم وأشيائهم في سهلٍ مُنخفض ومُنبسط. أطل الرسام من فوق رابيةٍ ترابيةٍ كاشفاً كل المساحة بالأسفل. الخضرة تحتضن المكان الذي يموج بالفلاحين وحواراتهم وحكاويهم. والنخل بدا وكأنه يهبط إلى المكان الفسيح ليُسَلّم على الناس ويرحب بهم.
كان المشهدُ خيالياً.. مُذهلاً. فلما تأمله الفنان لفترةٍ من الزمن؛ وَجَد نفسه داخله. هنا التقي البسطاء والمهمشين الذين تركهم خلفه في ظلام ليالي المحطة وضجيج ممراتها وأرصفتها وعتمة دهاليزها وأنفاقها وضيق أفق موظفيها، لينطلق في أجواء رحبة طليقة .
هذا الحدث عَلَّمه أنَّ هناك ما وراء المشهد.. أنَّ هناك شيئاً غير مرئي يجب عليه أن يُعَبّر عنه؛ أن يرسمه، أن يُصوّره بخاماته في الأوراق وعلى التوال.
جلس الرسام، متوارياً وراء سور، خلف خيمة عم أحمد الإسكافي، يرسم إسكتشات سريعة لحركة الناس ومعاملاتهم، لإيقاع السوق بكل تفاصيله؛ باحثاً عن لحظةٍ أو موقفٍ ما.. مثير جمالي ما، كما اعتاد أن يبحث ويستكشف في جولاته اليومية. فجأةً أُلقيَت أمامه مَشَنة البرتقال وتناثرت حَبَاتُها التي غَبَّرَتْ المكان وملأته من حوله، مُعْلِنةً عن ظهور “فتاة البرتقال”، في ساعة الظهيرة. كانت الشمسُ عموديةً تَدْفُق سهام صهدها على كل شيء في السوق الصاخب.
البنت سمراء مكحلة العينين. ترتدي جلباباً أصفر بزهور متعددة الألوان، وتلف رأسها بإيشارب أبيض، وفي قدميها صندل بني غامق.
لكن شرراً مُضيئاً تفجر من العينين، لحظة دفعت البنت مَشَنة البرتقال الكبيرة من على رأسها إلى أرض السوق، وهي تصرخ: “مش ح أشيل.. يعني مش ح أشيل”. وخلفها رجل بائس يمسك بعصا يضربها بقوةٍ ويدوس على كتفيها: “شيلي يا بنت….”، وهي تبكي، وأصابعها تتلوى، وأنفاسها تتلاحق. ومن جهةٍ أخرى جاءت أمها في جلبابها الكحلي تُحدّثها؛ تؤنبها وتعاتبها محاولةً إقناعها بأن تحمل مَشَنة البرتقال، لكن البنت تصرخ وتبكي وترفض. لقد تمردت.. ثارت ولا عودة إلى الرضوخ والإذعان.
وما أدهش الفنان وهو الغريب عن تلك المنطقة وأهلها؛ هو عدم اكتراث المارة وسلبية سلوكهم وامتناعهم عن التدخل فيما يجري أمامهم، وكأن ما يحدث هو من طبائع الأمور عندهم وقد صار من غرائب الأشياء في ذلك المكان وبهذا الزمان. يبدو أنها أصبحت حالة عادية هنا. هذا ما صار يجول بخاطره، ويتداعى في ذهنه، حتى أنه قال في نفسه: إذن هي بنت “دلوعة”.
لكن الموقف طال، وبدا أن الفنان يتفرج على أوبرا.. على دراما مسرحية صاخبة.. على مشهد روائي عنيف: حركة ولون البرتقال المتناثر والزعيق وأجساد وهيئة كل عناصر الحدث والمتفرجين بملابسهم الريفية المتنوعة.
ظل يتابع المشهد، ينظر إليه تشكيلياً، ولا يراه غير ذلك.
أغمض عينيه، وفتحهما، فلم يجد سوى البرتقال.
لم يتدخل ليوقف ذلك العنف الذي يدور ويشتعل أمامه. ولما سأل إسكافياً عجوزاً في جانب من السوق وكان يتابعُ الحدث من على بُعد، قال له: “أحسن إنك لم تتدخل.. دي مسألة عادات استجدت عليهم.. البنت عايزين يجوزوها.. وهي عايزة تروح تلعب مع زميلاتها.. تعيش طفولتها”.
طبعاً استقر هذا الموقف في الذاكرة، وصارت فتاة البرتقال أيقونة في حياته الفنية، ورمت بظلالها وأضوائها وخطوطها على مثيلاتها وأشباهها في المجتمع.
كم من فتيات البرتقال حولنا ؟!
لقد أحدثت فتاة البرتقال داخل الرسام صدمةً نفسية، تشكيلية وتعبيرية. وتَحَوَّلت من مجرد واقعة حدثت ذات نهار حار في سوق قروي أثناء إحدى رحلاته الريفية الاستكشافية وهو يبحث عن أفكار وأشكال وموضوعات للرسم والتصوير، لتصير رمزاً وتعبيراً وطريقة تفكير ورؤية جديدة مُغايرة للعالم من حوله. هو صار بعدها يُخَزّن ما يمر به من مواقف، ويستمع إلى حكايات وحوارات وشَغب البشر، فيتحول كل ذلك إلى صور درامية تشكيلية تُعَبّر عما يدور في المجتمع، مُتَمثلاً ومُتَحَققاً في حالة “فتاة البرتقال”.
على حامد
هذا النص كُتِبَ عن معرض الفنان : عماد إبراهيم