بعد أن سردنا فى المقالتين السابقتين ما تيسر من أحداث الفتنة الكبرى التى وقعت بعد مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان والتى نشبت بين الإمام على بن أبى طالب الذى تولى مهام الخلافة وبين معاوية بن أبى سفيان والى الشام منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وجدت أنه من المفيد أن نطلع فى عجالة على سيرة الإمام على بن أبى طالب، ولا نقصد عند تناول سيرته مجرد إسلامه صبيا يافعا أو نومه فى فراش الرسول – صلى الله عليه وسلم – وقت الهجرة من مكة إلى المدينة مخاطرا بحياته، لكن الله امتحن زمن خلافته، بالفتنة والاضطرابات والصراعات الكبرى التى حفرت لها (أخاديد ودروبا) فى حركة التاريخ، ما زالت ممتدة فى الزمان ونعانى بعض آثارها حتى الآن، ولا يبدو لها نهاية، مع أن الإمام على كان من أشد الرجال حرصا على العدل وحبا فى الحق، وتوافرت فى شخصه كل مقومات الحكم الصالح ونبل القيادة الرشيدة، وقال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنت سيد فى الدنيا، سيد في الآخرة، من أحبك فقد أحبني، وحبيبك حبيب الله، ومن أبغضك أبغضنى وبغيضك بغيض الله
على بن أبى طالب هو الذي قال عن زمنه عبارة شديدة الشيوع لخص فيها حال البشر: (واعلموا رحمكم الله، إنَّا فى زمان القائل فيه بالحق قليل، واللسان عن الصدق كليل، واللازم للحق ذليل).
عبارة مفتاح، وأهميتها أنها قيلت فى باكورة تأسيس الإمبراطوريات والتوسعات الكبرى، ولم يكن مضى على وفاة النبى سوى أربع وعشرين سنة فحسب، وكانت صورته ما زالت محفورة فى صدور وقلوب وعقول كثير من الذين أسلموا على يديه وتعلموا منه، وهاجروا معه وعاشوا دعوته إلى الله. وبالرغم من هذا اشتعلت الفتنة وسفكت الدماء .
فالسياسة والحكم والسلطة تفتت الورع، وتغور الصدور، وتزين الدنيا باسم الحكم لله كذبا، خاصة أن بنى أمية كانوا يتربصون بـ«على بن أبى طالب»، ويتحينون الفرصة للانقضاض على الحكم، وبنى أمية منذ نزول الرسالة السماوية على محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وبزوغ شمس الإسلام وعلو مكانته، وهم يحاولون استرداد الأرض التى فقدوها، حيث كانوا فى زمن الجاهلية سنامة القوم لهم العزة والثروة والسلطة السياسية، فإذا بالدِّين الجديد يجمع الناس ويسلم مقاليدهم إلى بنى هاشم الذين منهم نبى الإسلام.
وحين دخل أبوسفيان بن حرب بن أمية الإسلام مضطرا عند فتح مكة، وهو لا يألو جهده فى التفتيش عن الدروب والمسالك والطرائق التي تعيد عشيرته إلى الحكم، فاستغلوا عثمان بن عفان وطيبته ورفقه بأهله وحنوه عليهم، فاقتربوا منه، فـ «ولاهم» عثمان الأمصار والمدائن، ولأنهم أهل دنيا قبل أن يكونوا أهل دين، ولعوا بالسلطة والثروة وتنعموا بهما على حساب الناس.. ثم قادوا الفتنة، تحت شعار براق «التمسك بشرع الله».
وهل كان فى ذلك العصر من هو أكثر رغبا وتمسكا بشرع الله من على بن أبى طالب؟ لكنه الغرض اللعين، وهذا الغرض صنع للإمام خمس مشكلات عويصة:
١- القصاص من قتلة عثمان بن عفان وكان قتلته كثير العدد، بدرجة يصعب إن لم يكن مستحيلا تعليق دمه فى رقبة شخص أو رقاب أشخاص بعينهم.
٢- شدة مؤامرات بنى أمية عليه بعد أن عزل ولاتهم الذين ولاهم عثمان، وكانوا قد ركبوا على الناس وأصابوا ثروات ضخمة وتنعموا فيها.
٣- غضب الصحابين الجليلين طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام بعد أن رفض طلبهما الإمامة على البصرة والكوفة، متبعا تعاليم الرسول بعدم الاستجابة لمن يطلب الولاية ويسعى إليها.
٤- تمرد عدد كبير من المهاجرين والأنصار على مبدأ المساواة الذى أقره، بعد أن شاعت الاستثناءات والامتيازات لهم على حساب الآخرين.
٥- ثورة الأغنياء عليه، رافضين فرضه على أموالهم حقا للفقراء استقطعه منهم بالقوة.
فكيف لا يكون ذلك الزمن زمن فتنة وحروب أهلية؟
وعلى بن أبى طالب لم يكن يوما من مريدى الخلافة الباحثين عنها، وحين اجتمع المسلمون فى سقيفة بنى ساعدة ليروا من يخلف رسول الله بعد مماته، كانت زوجته فاطمة بنت النبي، تحثه على أن يطلب الخلافة لنفسه، وكانت تراه الأحق بها، نسبة إلى دعاء الرسول فى خلال العودة من حجة الوداع عند مروره بغدير خم: اللهم وال من ولاه وعاد من عاداه»، وكثير من المسلمين وعلى الأخص الشيعة صوروا هذا الدعاء كما لو كان أمرا بالخلافة، لكن عليا كان متعففا مُقدرا قامات رجال التفوا حول الرسول وقت الشدة وآمنوا به فور علمهم بدعوته، كالصديق أبى بكر، الذى أسرع عمر بن الخطاب إلى مبايعته وأدا لفتنة كانت تشتعل فى السقيفة وتنذر بقتال، فمضى «عليُ» على درب عمر، وبايع الصديق وتحمل غضب زوجته منه وخصامها له فترة من الزمن، ومع ذلك قال المتشيعون له إنه بايع أبى بكر مضطرا، وهو قول يجافى الحقيقة، فمثل على بن أبى طالب لا يُضطر إلى النفاق حتى لو من باب التقية، و«علي» تربى فى بيت النبى وشرب من مكارم الأخلاق أصفاها.
وعلى بن أبى طالب هو أول من لقب بـ«المهدي»، وورد فى «كتاب أسد الغابة فى معرفة الصحابة لابن الأثير» أنهم أطلقوا عليه (هاديا مهديا)، ومن هنا ولدت فكرة المهدى المنتظر عند الشيعة. وابنه مُحمد بن الحنفية هو أول مهدى منتظر فى التاريخ، وأنجبه من امرأة تزوجها بعد موت فاطمة، ونسب إليها تمييزا له عن أخويه الحسن والحسين، وكان مُحمد مثل أبيه شديد البأس والقوة، صرع ذات مرة مصارعا روميا تحداه بضربة واحدة، وبعد مقتل الحسين بسنوات اختفى فى ستر الليل كأنه تلاشى من الوجود، وقيل إنه قتل، وظهر له قبر فجأة فى دمشق بعد مئات السنين من اختفائه الغامض.
وما زالت الفتنة مستعرة وما زالت الدماء مسالة، خاصة بعد أن تسللت إليها أيد أجنبية تسيرها من خلف ساتر ووجدت من يبيع نفسه من الداخل لتحقيق مآربها.
حفظ الله مصر وشعبها وجيشها من شر الفتن.