وائل الشهاوى يكتب … الفتنة الكبرى (1)
- مقالات
- 02 فبراير 2019
- d M Y
- 19913 مشاهدة
منذ فجر الدولة الإسلامية وهى تتعرض للكثير من الفتن، وكان أبرزها وأولها من حيث الحجم والأهمية «الفتنة الكبرى»، أو فتنة مقتل عثمان، وتُعرف كذلك بـ«الفتنة الأولى»، وهى مجموعة من القلاقل والاضطرابات والنزاعات، أدت إلى مقتل الخليفة عثمان بن عفان فى سنة ٣٥ هـ، ثم تسببت فى حدوث نزاعات وحروب طوال خلافة على بن أبى طالب.
كان للفتنة الكبرى أثر كبير، فى تحويل المسار فى التاريخ الإسلامي، فتسببت بانشغال المسلمين لأول مرة عن الفتوحات بقتال بعضهم البعض، كما تسببت ببداية النزاع المذهبى بين المسلمين، فبرز الخوارج لأول مرة، كجماعة تطالب بالإصلاح وردع الحاكم الجائر والخروج عليه، كما برزت جماعة السبئية الغلاة، التى اتفقت على تقديم أهل البيت على جميع الناس، وغالت فى حبهم، كما كانت من آثار الفتنة مقتل عددٍ مهول من الصحابة على رأسهم عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب. كما كانت من أبرز تحولات المسار، انتهاء عصر دولة الخلافة الراشدة والخلافة الشوريَّة، وقيام الدولة الأُموية وبروز الخلافة الوراثيَّة.
وقد كان اللجوء إلى «رفع المصاحف» أحد أهم محطات «الفتنة الكبرى» التى وقعت فى أعقاب مقتل الخليفة عثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ـ إثر اختلاف الرأى بين الصحابة حول تطبيق القصاص من قتلته، تحول الخلاف إلى صدامات وحروب أدت إلى تقسيم الأمة إلى طوائف، وأفضت لمقتل العديد من صحابة الرسول المبشرين بالجنة، وانتهى الحال بضياع مبدأ الشورى بين المسلمين فى تولى الحكم، وهو المبدأ الذى كان يحقق الانتقال السلمى الحر لتداول السلطة، ومنذ ذلك الوقت لم يعرف المسلمون طعما لهذا المبدأ الذى انتهى بالخلافة الراشدة، وليصبح الأمر مُلكًا عضوضًا، كما حذر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه فى أحاديث الفتنة.
ولم تكن المدينة المنورة فى عام ٣٥ هـ كحالها على عهد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يقطنها الصحابة فقط، فقد دخل الناس فى دين الله أفواجًا، كثيرا منهم لا يبغى غير وجه الله، وقلة خبيثة أرادت أن تطعن الدين والدولة فى مقتل يعجل بنهايتها، وقد تزعم هذه الفرقة عبدالله بن سبأ اليهودى الذى اتخذ من الإسلام ستارًا لنشر الفرقة بين المسلمين، وبدأ ببث سمومه بأحقية الإمام على بالخلافة، وتحريض ثوار الأمصار على سياسات الخليفة عثمان، متهما إياه بمخالفة حياة التقشف التى سار عليها الفاروق عمر، وجمع القرآن فى مصحف واحد وإحراقه للنسخ المتبقية، واختصاص أهله بالولاية دون غيرهم.
تواترت وفود ثوار الأمصار إلى المدينة من مصر والكوفة والبصرة يقودهم أتباع ابن سبأ، وحاصروا الخليفة ٤٠ يومًا، رفض فيها عثمان حماية الصحابة له خوفًا من أن يراق دم المسلمين بسببه، كما رفض عرضًا آخر بالانتقال إلى مكة المكرمة بلد الله الحرام، أو التوجه إلى معاوية فى الشام، بحيث يكون فى مأمن لن يستطع معه دعاة الفتنة أن يقربوا منه، وكذلك رفض اقتراح معاوية أن يترك له بعض القوات لحمايته ـ وقرر أن يواجه هؤلاء الأدعياء ومن معهم من الثوار المغرر بهم بالحوار والحجة، فأجرى معهم مناظرات أقنعهم فيها بسياسته، وبالفعل انسحب ثوار الأمصار إلى ديارهم.
غير أن رؤس الفتنة لم يستسلموا لفشل مخططهم، وذلك كعادة دعاة الفتنة فى كل العصور، إذ زوروا رسالة ونسبوها إلى عثمان تقضى بقتل هذه الوفود الثائرة بمجرد عودتهم إلى بلادهم، فعاد الثوار أدراجهم إلى المدينة، وتمكنوا فى هذه المرة من قتل الخليفة عثمان بن عفان، فمات صائمًا قارئًا للقرآن، بعد أن منعوه من الطعام والشراب أياما، وذلك فى يوم الجمعة ١٨ من ذى الحجة سنة ٣٥، دون مراعاة لحرم رسول الله ولا الأشهر الحرم.
لقد راح الخليفة الراشد ضحية التطبيق الخاطئ لمبدأ حق الأمة فى محاسبة الحاكم، وقد استغل المناهضون له هذا المبدأ أسوأ استغلال، فلبسوا رداء الدين باسم حماية الأمة من خطأ الحاكم، وتستروا باسم حفظ المال العام، ورفعوا شعار الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والساكت عن الحق شيطان أخرس، تحت هذه المسميات اتهموا الخليفة وحكموا عليه، ونفذوا فيه حكمهم الظالم.
وبمقتل عثمان واجهت الأمة أخطر تحد فى تاريخها، وفى إجراء سريع لحماية الدولة من الانهيار، توافق صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تقديم الإمام على ـ كرم الله وجهه ـ للخلافة، وبدأ يتلقى البيعة من المسلمين فى سائر البلاد.
غير أن الأمور لم تقف عند هذه الحالة، فقد ظهرت تحت الرماد نيران جديدة عصفت بالأمة، فدب الخلاف حول ضرورة «القصاص» من قتلة الخليفة الشهيد، فقد وضع الإمام على ـ رضى الله عنه ـ استراتيجية تقضى بترتيب أمور الدولة واستعادة هيبتها وحمايتها من الفوضى أولا قبل الشروع فى ملاحقة هؤلاء القتلة، وهم كُثر ومن الصعب القبض عليهم، خاصة أن عاصمة الخلافة وولايتها كانت تموج فى الفتنة، وهذا ـ رأى محمود ومقصد نبيل ـ يميل إلى تغليب صوت العقل، وإزاء هذا الرأى ظهر رأى آخر يميل إلى العاطفة تزعمه عدد من كبار الصحابة، يقضى بتنفيذ العقوبة بحق قتلة عثمان تزعمه الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وأم المؤمنين عائشة ومعاوية بن أبى سفيان ـ رضى الله عنهم.